للكاتب [ مدير الموقع ] / بتاريخ 26, مارس, 2010

أسرار قائد الأوركسترا

تأليف : ليونارد بيرنشتاين - مؤلف و قائد أوركسترا أمريكي
ترجمة : مازن مغربي عن مجلة لوموند دو لا موزيك الفرنسية
المرجع : مجلة الحياة الموسيقية العدد 6 " منقول للإفادة "


تظهر مواصفات و طبيعة كل من قائد الأوركسترا و موسيقييها أثناء الأداء و يكفي أن يحضر المرء أحد التمارين حتى يظهر لنا هذا واضحاً و إن كان الحفل هو المحك الفعلي لأنه في اللحظة التي يجب على الموسيقيين أن يظهروا لقائدهم مدى فهمهم لأفكاره , فإذا ماكان قائد الأوركسترا جيداً , تأكدوا بأن أعضاء الفرقة سوف يتعاملون معه باحترام كبير أما الحالة المعاكسة فهي المصيبة بحد ذاتها
أستطيع أن أقول من تجربتي أن الموسيقيين كانوا يستقبلونني دائماً بصمت و يقفون و هم يبتسمون و كثيراً ما أسعدني لأنني أحب أن أراهم سعيدين بانتظاري , سعيدين لأنهم سيعزفون معي , و لا يمكن أبداً تحاشي احتمال أن يطلب أحدنا من الموسيقيين أن يعزفوا بحماسة و رغبة كبيرة السمفونية الخامسة لبيتهوفن مثلا بعد أن يكونوا قد عزفوها الأسبوع الماضي و لعشرات المرات مع قائد آخر , و في استجابتهم له يكمن سر النجاح
لست أدري ما إذا كان من السهل أو الصعب العمل بفكرتي القائلة بأنه إذا ما لاحظ قائد الأوركسترا بأن الموسيقيين لا يعزفون بشكل لائق فيجب عليه أن يبحث عن العلة في نفسه أولاً , فهو المسؤول الوحيد , و أنا قد استطعت أن أجعل علاقتي مع الموسيقى حميمة التقي عبرها بأسرتي الكبيرة و المؤلفة من الموسيقيين أعضاء الفرق
يجب على قائد الأوركسترا أن يكون موسيقياً صارماً و دقيقاً و أن يكون واعيا ليس فقط لقدراته بل لقدرات الأوركسترا التي يقودها أيضاً , فحتى تكون قائداً جيداً و كبيراً لا يكفي أن تصعد إلى المنصة و أن تبدأ بالاحتجاج أو الصياح على الموسيقيين الذين لا يستطيعون أبدا أن يعطوك ما ترغب به فعلاً , يجب عليك بالأحرى أن تفهم الأوركسترا التي تقودها و تعي القدرات الموسيقية لعازفيها فردياً و جماعياً قبل أن تطرح عليهم رؤيتك للمقطوعة الموسيقية طالباً منهم أن يفعلوا هذا أو ذاك و حاصلاً منهم بالتالي على أفضل النتائج
إن السعادة التي تحصل عليها من قيادتك للأوركسترا تأتي في الواقع من التساؤلات التي تطرحها على نفسك, فحتى تحقق عملاً موسيقياً ناجحاً يجب أن تكون عندك إجابات على سلسلة كبيرة و متماسكة من الأسئلة، لم هذا التصاعد في الصوت مثلاً , و أي منحى يجب أن تتخذه هذه الضربات القوية , و لماذا يجب أن يكون نبض اللحن هنا سريعا
هذه هي الموسيقى , إنها سلسلة متصلة من الأسئلة التي تختلف إجاباتنا عليها أحياناً بتقدم الزمن و باختلاف إيقاع حياتنا و أحاسيسنا
على قائد الأوركسترا أن يجيب على كل أنواع الأسئلة , و كل جواب يجب أن يكون له ما يبرره إذ لا يجب أن نعرف فقط كيف نقود الموسيقى , بل يجب أيضاً أن نعرف كيف نشرحها , إن هذه طروحات و الأجوبة عليها هي التي تسمح لفن قيادة الأوركسترا بأن يظل حياً , و شرح الموسيقى لا يعني طبعاً أن نقف على المنصة , و نزعج الموسيقيين و نصيبهم بالسأم من جراء ساعات و ساعات من المحاضرات التي ربما لم يكن لها معنى, إن شرح الموسيقى يعني أن تنجح في إخراجها من الآلة بشكل طبيعي , بحركة , بغمزة, بقفزة , إن هذا يعني استخراج روح الموسيقى و إيصالها الى المستمع , إن الموسيقى هي مسار نتبعه في كل مرة كما لو كنا نسير فيها لأول مرة , إنها طريق يجب عبورها بضمير و إتقان و دون أن نترك أي تفصيل دون انتباه , إنها طريق يجب اكتشافها بفضول لأن كل العناصر التي تشكلها يجب أن تكون بأوضح صورة
على القائد أن يعرف كيف ينقل اكتشافاته إلى المستمع و أن لا ينسى أنه إنما يعيد اكتشاف ما سبق للمؤلف أن اكتشفه من قبل , يجب على القائد أن يكون أميناً و صريحاً فيصبح بهذا أكثر حساسية كما لو كان يريد أن ينقل إلى الموسيقيين و إلى الجمهور الخصوصية و السحر الكامنين في المقطوعة ، يجب أن يعرف كيف يكتشف الموسيقى و يفجرها
و لكل قائد نظرته الخاصة إلى الفرقة التي يقودها و إلى إمكانياتها , مرة حين كنت أقود فرقة برلين فلهارموني عانيت كثيراً و أنا أشره للعازفين كيف يجب أن يعزفوا السمفونية التاسعة لماهلر , و بعد التمرين الأول أردت من شدة يأسي أن أغادر برلين لأن الأوركسترا كانت غير قادرة أبداً على تقديم ماهلر , فجاءت الموسيقى معقدة من فرط ما كان في أداء العازفين من أناقة مرهفة و غير ضرورية بهذه الكثافة في عزف ماهلر و خاصة فيما يتعلق بسيمفونيته الأخيرة , تصوروا , ماهلر بصوت دائم الحلاوة و الأناقة , شرحت للأوركسترا أنه من الضروري عزف بعض الصفحات بطريقة قاسية سمجة و مختصرة بل و قبيحة , و قليلاً قليلاً اقتربنا من ماهلر و تمكنت لحسن الحظ من إنقاذ الحفلة و لكن كم من التعب كدني
أنا افضل عليهم فرقة فيينا فلهارموني ليس فقط لأنها أوركسترا متميزة و لكن لأنها على الأخص شديدة الحساسية , و ليس صحيحاً تماماً ما يقال بأن هذه الأوركسترا لا تسلم نفسها للقيادة, إن في هذا الاعتقاد خطأ كبير , إنها فرقة مدهشة
طبعاً , هذا لا يعني أن بقية الفرق التي أقودها باستمرار ليست مدهشة أيضاً , إن لكل فرقة محاسنها و عيوبها تماماً مثلما نحن , لكن مع فيينا فلهارموني هناك علاقة خاصة جداً , و تعاطف و احترام إذ يمكنني معهم أن أقود بعيوني و رأسي أو بتحريك يدي اليسرى فقط بعد أن أصيبت يدي اليمنى إثر وقوعي عليها
بالنسبة لقائد الأوركسترا, لا يوجد أبداً مقطوعة قديمة , لا يجب أن يفكر بأنه درسها عندما كان شاباً و أنه حفظها غيباً و أن دراستها من جديد لن تعطيه أي فائدة أو متعة , ففي الافتتاحية , السمفونية, الموسيقى كلها هي فرص لانهائية قابلة للتجديد , السمفونية التاسعة لبيتهوفن مثلاً و التي قادها كل منهم عشرات المرات يجب أن تكون مجهولة تماماً بالنسبة له في كل مرة يجب عليه أن يعيد قيادتها
و قبل الصعود إلى منصة القيادة يجب عليه أن يقرأها و أن يدرسها و أن ينبهر بها كما لو كان يراها للمرة الأولى ، إن إعادة قراءة ما سبق و درسه و قاده مئات المرات هو أيضاً تجربة رائعة لأنه في كل مرة سيكتشف تفصيلاً جديداً و لن يتوقف حتى ينهي قراءتها
لا يمكن أبداً أن نكتشف ما هو مخبأ في كل مقطوعة , و لا يمكن أبداً أن نتوقف عن الدراسة